:بسملة وتحية:
اليكم قصة كتبها الاستاذ العظيم عصام الصاوى
بستان الفيـروز
يحكى أنه فى قديم الزمان وسالف العصر والأوان كانت هناك قرية صغيرة تحت سفح الجبل يعيش أهلها فى سلام.
كان الشاطر حسن شابا صغيرا ممتلئا حياة وقوة. يعيش كما يعيش أهل القرية. إلى أن كان يوم سأل جده العجوز أين بستان الفيروز؟ إنهم جميعا يتحدثون عنه ولا يملون. حدثنى ياجدى.
يقولون أن البستان كله فيروز. الحصى فى أرضه، زهر الشجر، كله فيروز وأن من يحصل على واحدة يعيش عمره فى هناء لا يعرف الحزن أبدا. هل صحيح ياجدى.
ألح الشاطر حسن حتى تكلم الجد العجوز. قال ياحسن أنت أيضا سمعت. إنهم يقولون كثيرا ويعلمون قليلا. لاتلق بالا إلى كلامهم. لما رأى الجد الإصرار فى عينيه فكر وداعب لحيته البيضاء بأصابعه ثم قال. هل ستذهب أنت أيضا؟ إن من ذهبوا إلى الفيروز لم يعودوا أبدا. وأخاف ياولدى ألا تعود.
قال الشاطر حسن سواء حكيت ياجدى أو لم تفعل فإنى عزمت أن أذهب وأعددت عدتى فزودنى بنصيحة.
قال الجد العجوز حديقة الفيروز بعيدة المنال. أيام وشهور وسفر طويل حتى تصل إليها، وستعانى الطريق الموحش والليل البارد وتصل منهكا، وستنسى كلامى وحينئذ لن تعود. نصيحتى ألا تنسى كلماتى. يجب عندما تصل أن تستريح قبل أن تحزم أمرك.
بستان الفيروز يا ولدى عجيبة يتداولها الناس حتى اصبح أسطورة. بستان الفيروز مروج واسعة فيها شجر وزهور مثل كل الأزاهير، ولا فيروز هناك.
حورية البستان أجمل ما سترى عيناك فى الدنيا. جميلة كالقمر. والفيروز عيناها الخضراوتان. نظرة واحدة هى النظرة، وتذوب، وتغمض عيناك وتذوب. لن تدرى أين أنت ولا كيف ستعود. ولن تعود. تريد أن تحصل عليها يا ولدى وتعود؟
هناك طريقة واحدة هى أن تذكرنى. لا .. تذكر كلماتى هذه. لا تنظر إلى عينيها أبدا، وأنظر بعيدا.. نعم، ستدور حولك الحورية. تمالك نفسك وأنفاسك، وهى ستدور وستجعلك تنظر إلى عينيها .. تذكر .. أنظر بعيدا دائما. وستنظر هى فى عينيك، وساعتها تستطيع أن تراها جيدا وتنظر إلى الفيروز فى عينيها ويكون لك كنز الكنوز.
انطلق الشاطر حسن يقطع الوديان والجبال وحيدا إلا من الشوق إلى الحورية وعينيها. نظرة إلى الفيروز تجعله سعيدا هانئا. ومضت الأيام والشهور حتى وصل إلى البستان منهكا متعبا فحط الرحال، وهم أن يذهب لكنه تذكر كلمة جده العجوز أن ينتظر. وبقى قليلا يستعيد كلمات جده وتوكل على الله ودخل إلى هناك.
تلفت حسن حوله فرأى الزهر والطير والشجر. شدت عينيه هالة النور. إنها الحورية. هاهى هناك. اقترب منها. نظر بعيدا. اقتربت الحورية. يالهذه الرائحة الجميلة. عطرها يسكره. يلفح وجهه فى نعومة. وهذا الشعر الطويل إنه يراها كطيف فى ثوبها الأبيض. يريد أن يرى الفيروز الآن. هيا. لا..انتظر، الجد قال اصبر.
تدور الحورية حوله. يدور حولها. يحس بخدر ناعم لذيذ. يكاد يرقص. الآن فى بستان الفيروز، والفيروز فى متناول يده. نظرة واحدة تكفى. الشوق يصارعه. أحب أن يراها .. لا .. أحبها منذ سمع عنها . منذ سمع عن الفيروز. وجده العجوز تركه يذهب، أنه يعرف أن هنا الهناء فى عيون الفيروز. إن الجد حكيم، أنه يعرف، ولابد أن ينتظر ولكن كيف والشوق يقتله فعلا؟
لمسته الحورية. مست يده . تشابكت الأصابع. وجهها قرب منه يحس أنفاسها. يشم عبيرها. تحاول أن تنظر فى عينيه. تمام كما قال الجد. يا للجد الحكيم ليته هنا ليرى. ما هذا الشعور الفياض. لمستها على يده وأنفاسها تلفحه. عيناها تدور حوله، وواقف هو كالتمثال ينظر بعيدا حيرانا. ماذا يفعل وقلبه سينفجر بدقاته ولهفته؟ لابد أن يراها وينظر إليها. ما هذا؟ إنها تنظر فى عينيه ثم تتهاوى تستند عليه.
الآن فقط نظر فى عينيها . ياه. يالهذا البهاء والنور. كل شئ هنا خلق جميلا، الفيروز والحنان، والعطاء والحب. الموسيقى والأحلام. الهناء والأمان كل هذا فى عينيها.
لا يعادل هذه اللحظة شئ آخر فى الوجود. هذا الدوار. يحس أنه يطير ويدور والدنيا كلها تدور. إنها تغمض عينيها . يسمع أنغام همسها. أغمض هو الآخر .. يحلم .. وتحلم هى الأخرى .. يحلمان. ونظرة أخرى .. وذابا فى بحر الفيروز.