ـ تتراقص البهجة والسعادة دائما فى ذلك المنزل البسيط، بعدما رزق الله ((عبد الرحيم)) وزوجته ((نبيلة)) بإبتهما ((جنى)) التى بلغ عمرها الأن ، خمس سنوات...
ـ جاءت إلى الحياة بعد سنوات عديدة .. ذابت خلالها أقدام والديها فى المستشفيات والعيادات الخاصة .. و رغم فقرهما كانا يدخران راتب الأب ، إلا القليل ، لسد تلك المصاريف الباهظة ، وفى نهاية المطاف ، وبعد شقاء أعوام ، وأعوام .. أجمع الأطباء أن ((نبيلة)) لن تنجب البتة ، ولكن كان أملهما أكبر من كل الأطباء ، كان فى الله ، وبالفعل لم يخيب الله ظنهما وتضرعهما المستمر ، وأخيرا .. وبعد طول إنتظار ..
جاءت ((جنى)) لتضئ البيت عليهما بعد عتمة السنوات الماضية ...
~ * ~
الرياح خارج المنزل هادئة ، ومستكينة .. تشعر بارتياح لما تراه من هدوء حولها.. يبدو أن الرياح تشعر بمن حولها !...
ـ المنزل بسيط من الخارج ، ومن الداخل أيضا .. اللهم إلا مخدع ((جنى)) .. أنيق .. ساحر إلى حد كبير .. كل قطعة أثاث فيه ؛ أبتاعها لها والدها بالتقسيط لحبه الغامر لها..
ـ زهرية الورد .. المجفف .. القابع فوق سطح المكتب الصغير فى الركن ؛ تتلألأ أنواره الملونة بداخله لتزيد من بهجة المخدع وجمال الطفلة النائمة فوق فراشها الصغير الملون ، و الأنيق أيضا ..
ـ الأنوار تتراقص على وجه الطفلة المستدير .. براءتها تقفز من وجهها الأبيض .. بينما نهض ((عبد الرحيم)) متسللاً من جوارها بعدما قَبل جبهتها برفق .. ثم عدل الغطاء فوقها ، وهو يمعن النظر إليها .. ثم ابتسم ببطء وكأنه يبتسم لملاك حقيقى ..
يعرف أنها رقيقة الإحساس..
مشاعرها مرهفة ، وحنونة مثل والدها..
براءتها سهم يخترق قلب من يراها..
فهى كالمصباح المضئ فى المنزل .. تُنيره حينما تستيقظ ، وفور نومها ينطفئ النبراس ويعم الظلام...
ـ انتصب الأب ، وهم بالخروج من الغرفة ولكن...
اتاه صوتها الطفولى الحنون بغتة :
" اين تمضى يا ابى ؟ احكى لىّ قصة أخرى "
استدار مبتسما ، وضرب يداه بالأخرى ثانيا ظهره فى دعابة :
" تضحكين على أباكِ يا جنى .. تتظاهرين بالنوم وانتِ مازلتِ مستيقظة ؟! .. يالك من ماكرة "
ضحكت الطفلة وهى تنقلب على جانبها :
" نعم .. وأريد قصة أخرى "
اقترب من الفراش وهو مازل واقفا :
" ولكن الوقت تأخر الأن وأنا لدى عمل باكرا .. هيا اغمضي عينيكي ونامى حالا .. هيا . هيا يا استاذة "
هزت كتفيها وقالت :
" ولكنى أخذت أجازة أخر العام .. ونجحت ، ومن حقى قصة جديدة "
رفع سبابته وهم بالقول ولكن ...
" مازلتى مستيقظة إلى الأن يا جنى " التفت الأب إلى زوجته وهى تضيف :
" اتركِ والدك .. لأنه يرهقنى فى إستيقاظه كل يوم "
ألاح برقبته إلى ابته ، والبسمة تغزو وجهه المشع ببراءة الأطفال والرجولة معاً .. الواضحة ثمة عيناه العسليان :
" أرأيتى لقد جاءت الأوامر .. يجب أن أنام بسرعة "
" ولكنك رجل ويجب أن تعطى أنت الأوامر إلى جميع الناس "
ضحك الاب على ذكائها، وابسمت الأم متعجبة .. فقد كانت تقصد بـ (جميع الناس) والدتها ، ولكنها لم تجرؤ على قول ذلك .
فأشار الأب بسبابته محذرا ، موجها الكلام إلى زجته :
" نعم ، أنا الرجل وسأجلس وأحكى لإبنتى قصة كما تريد ..."
قاطعته ((جنى)) بتصفيقة عالية " هااااااا " فابتسم مضيفاً :
" وتعالى إستلقى بجوارها حتى تنام "
ابتسمت الام ، وهو يجذب الغطاء ليدخل تحته :
" أفسحى المكان كى أجلس "
ضحكت ((جنى)) وهى تفسح له المكان ، وجاءت الأم من الجانب الأخر وجلست بجوارها .. فزنهر الاب عينيه لإبنته مداعبأ إياها :
" هكذا سنطبق عليكِ كأنكِ الجبنة ونحن السندوتش "
ضحكت الطفلة ، وابتسمت الام ، ثم قالت ((جنى)) :
" هيا أحكى لى قصة جديدة "
عبث بسبابته أسفل ذقنه مفكرا :
" قصة جديدة ؟ ... اممممممم "
" اه ... " رفع سبابته مكملا :
" وجتُها .. اسمعى يا سيدتى .."
اتسعت إبتسامتها لجملته الأخيرة وهو يسترسل :
" كان يا مكان أيام زمان نملة جميلة تخرج مع أهلها وكل أحبائها فى فصل الصيف ، وتجلب السكر وتأخذه إلى مخدعها لكى ... "
قاطعته بنبرة طفولية ساحرة :
" و أين تقطن يا أبى .. ؟ "
" فى الجحور .. "
وقبل أن يسترسل عادت تسأل بشغف :
"وأين الجحور .. ؟ "
" فى كل مكان ، الجبال ، وفى الشوارع ، وفى المنازل العتيقة مثل منزلنا هذا "
ارتفع حاجبيها من الدهشة والفرحة معاً :
" هنا ؟! هل يوجد نمل جميل " هتفت بعد سؤالها بحرارة ، فأومأ الأب برأسه :
" بتأكيد ولكن والدتك تسحقه بستمرار "
ادارت وجهها نحو امها وانعقد حاجبيها تبرماً :
" لماذا تسحقين النمل يا امى ؟ "
ابتسمت وقالت ببساطة :
" لكى أنظف المنزل من الحشرات "
ازداد تبرمها وقطبت :
" ولكن النمل جميل يا امى "
لا تدرى والدتها بماذا تجيب .. فنظرت لزوجها فى صمت ، ثم أطبقت شفتيها ، وقالت :
" حل هذه الورطة من فضلك "
باغتها بضربه على ظهر يدها :
" لا تفعلى مثل هذا مجددا .. مفهوم ؟ "
تظاهرت بالبكاء ، وفتحت عين وأغلقت الأخرى لتختلس نظرات سريعة لإبنتها :
" حسنا .. لن أفعل هذا مطلقا .. "
فضحكت الطفلة ، وطفق الأب يسترسل فى قصته حتى غلبهم النعاس جميعا .
~ * ~
سدف الليل فى هذا المكان على غير العادة .. والسكون يرتجف فى قلق .. يبدو أن السكون أيضا يشعر ، أكثر من أناس شتى يعيشون بيننا...
ـ أعمدة الإنارة منطفئة على غير العادة ..
وبعد عدة دقائق من ذاك السكون الهائل .. إنبعث صوت أنين شَكِع ..إمتزج بصوت أقدام تطرق الأرض بثبات ، وسط الظلمة الدامسة ..
ـ اشتعل سيجار ضخم .. تطاير دخانه بكثافة كالضباب الأبيض بين الظلام ، ليظهر خيط طفيف من ذاك المشهد القاتم ..
ـ وجه كبير .. لم يتضح معالمه ، سوى ذقن مدببة كالأبر القصيرة..
ـ هنا سكتت الأقدام عن الطرق ، فوضح صوت تأوه خافتاً .. إلا أنه ظاهرا ومسموعا كذلك..
بينما همس صوت ، إبتلعت أحبالة الصوتيه صخرة جافة فأظهرت قسوته :
" هل إنتهى أمره ؟ "
أنبعث صوت واثق ، لم يتضح صاحبة بين هذه العتمة ، وهذا الداخان الضبابى :
" بكل تأكيد يا سيدى " وضحك فى خفوت مسترسلاً :
" ألا تسمع تأوهه .. والمعسكر شاغر كما تعلم .... "
أوما الأخر برأسه ، وهو يسحب نفس عميق من سيجاره المتأجج بين الظلام .. حيث استرسال هذا الواثق :
" والتيار الكهربائى قطعته بشكل لن يثير أدنى شك بتاتا .. "
هز رأسه مرارا متفهماً ، وسحب نفس أخر دون أن ينبس ببنت الشفة .. ثم ولى ظهره إليه بعدما ألقى ما تبقى من سيحاره بعيداً وتبخر فى الظلام ، ثمة صمت رهيب طوى هذا المشهد برعب يُداهم القلوب ...
فأرتفع صوت هذا الواثق فجأة هاتفا بسخرية :
" أتسمع تأوهه الأن ؟ .. يبدو أن أمره إنتهى تماما يا سيدى ههههههههههه " ...